أصحاب السبت: قومٌ أغراهم الطمع فنزل بهم غضب الرب
قصة تحذيرية خالدة في القرآن الكريم عن المعصية والمكر بعهد الله
مقدمة
يحفل القرآن الكريم بقصص الأمم السابقة، لا للتسلية أو الحكاية فحسب، بل للعبرة والعظة، ولتكون مرآة نرى فيها مصير من عصى أمر الله أو تجاوز حدوده. ومن هذه القصص قصة أصحاب السبت، قوم من بني إسرائيل امتحنهم الله واختبرهم، فكشف معدنهم، فاختاروا المكر والتحايل على شرعه، فكان مصيرهم المسخ إلى قردة وخنازير.
في هذا المقال نتناول قصة أصحاب السبت، كما وردت في القرآن الكريم، ونتأمل في تفاصيلها، وأسباب غضب الله عليهم، والعبر العظيمة التي نستخلصها منها، لنحذر أن نكون مثلهم في التحايل على أوامر الله، أو اللعب بحدود شريعته.
من هم أصحاب السبت؟
أصحاب السبت هم جماعة من بني إسرائيل كانوا يسكنون قرية على شاطئ البحر، يقال إنها بلدة "أيلة" على ساحل البحر الأحمر، وهي المعروفة حاليًا بمنطقة العقبة بين الأردن والسعودية.
وقد ابتلاهم الله بحكم خاص:
أمرهم أن يخصصوا يوم السبت للعبادة والراحة، ويحرّم عليهم العمل فيه، وخاصة صيد الأسماك.
سبب التسمية
سُمّوا بـ"أصحاب السبت" لأنهم اعتدوا في يوم السبت، وخالفوا أمر الله فيه، فاستحقوا العقوبة الشديدة.
الابتلاء الإلهي: اختبار الطاعة
قال الله تعالى في سورة الأعراف:
"وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ"
(الأعراف: 163)
التفاصيل:
كانت الحيتان (الأسماك الكبيرة) تأتيهم يوم السبت بكثرة وظهور واضح.
أما باقي الأيام فلا تظهر إلا قليلاً.
فكان في ذلك ابتلاء من الله واختبارًا لطاعتهم.
مكرهم وتحايلهم على شرع الله
بدلًا من الطاعة، بدأ بعضهم يتحايل على الأمر الإلهي. ففكروا في خطة ماكرة:
يحفرون حُفرًا قرب الشاطئ يوم الجمعة.
تأتي الحيتان يوم السبت وتدخل الحفر.
يتركونها حية حتى الأحد، ثم يأخذونها وكأنهم لم يصيدوا يوم السبت!
وهكذا احتالوا على حكم الله، وظنوا أنهم أذكى من التشريع!
موقف أهل القرية
انقسم الناس في تلك القرية إلى ثلاث فئات:
🔹 1. الفئة العاصية:
هم الذين اعتدوا في السبت وصادوا الحيتان بالمكر والخداع.
استمروا في معصيتهم واستحلوا المحرّم.
🔹 2. الفئة الناهية:
هم الصالحون الذين نهوا عن المعصية وذكّروا المعتدين بعذاب الله.
قالوا لهم:
"لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗا"
(الأعراف: 164)
فأجابوا:
"مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ"
🔹 3. الفئة الساكتة:
لم تعصَ ولم تنهَ.
اختارت الصمت، فلم تأمر بمعروف ولم تنهَ عن منكر.
عقوبة أصحاب السبت
قال الله تعالى:
"فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنۡهُ قُلۡنَا لَهُمۡ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ"
(الأعراف: 166)
أي: عندما تمادوا في المعصية ولم يرتدعوا، أمر الله بأن يُمسخوا قِرَدة خاسئين – أي أذلاء ومطرودين.
❗ ملاحظات هامة:
المسخ كان مسخًا حقيقيًا في الأجساد، لا مجرد تشبيه.
ولم يعيشوا بعد المسخ إلا ثلاثة أيام فقط، ثم ماتوا.
مصير بقية الفئات
الفئة الناهية نجت بعفو الله.
الفئة الساكتة هناك قولان للعلماء في مصيرهم:
بعضهم قالوا: نُجّوا مع الناهين.
وبعضهم قالوا: أصابهم جزء من العذاب، لأنهم سكتوا عن الحق.
الدروس والعبر من قصة أصحاب السبت
✅ 1. التحايل على شرع الله كبيرة عظيمة
من ظن أنه يستطيع "اللعب" بالدين أو التفاف على الحلال والحرام فهو كمن يستهزئ بربه.
التحايل لا يُسقِط الإثم، بل قد يجعله أعظم.
✅ 2. خطورة المعصية الجماعية
حين تنتشر المعصية ويُجاهر بها ويُسكت عنها، فإن عذاب الله قد يعم الجميع.
✅ 3. وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الفئة التي أنكرت المنكر نجَت، بينما الأخرى سكتت.
الصمت في وجه المعصية قد يكون جريمة بحد ذاته.
✅ 4. المعاصي تجلب غضب الله ولو كانت مغلفة بـ"الذكاء"
لا ينفع المكر والخداع أمام أحكام الله.
الطمع والشهوة أحيانًا تعمي العقول، فتجعل الإنسان يبرر ما لا يُبرَّر.
✅ 5. سنن الله لا تتبدل
من خالف أوامره، واستمر على المعصية مع العلم بها، فإن العقوبة حتمية.
أمثلة من واقعنا تشبه أصحاب السبت
قد لا نصيد في يوم السبت، لكن هناك أفعالًا تشبه تحايلهم:
من يتلاعب في المعاملات الربوية ليجعلها "كأنها حلال".
من يغش ويحتال في التجارة ويظن أنه ذكي.
من يُظهر التدين وهو يخفي المكر.
هؤلاء كلهم يسيرون على طريق أصحاب السبت، ولو لم يمسخوا في الدنيا، فالعذاب ينتظرهم إن لم يتوبوا.
خاتمة
قصة أصحاب السبت هي رسالة من الله لكل مؤمن:
"لا تعبث بأوامري، ولا تتحايل على شرعي، ولا تسكت على الباطل، فإن العذاب لا يميز بين ساكت وعاصٍ إن تواطؤوا على السكوت."
فلنحرص أن نكون من الناهين عن المنكر، الثابتين على الحق، ونتجنب أن نكون من الساكتين أو المتحايلين.
قال تعالى:
"فَٱعۡتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَـٰرِ"
(الحشر: 2)

Post a Comment